الفكر
الإسلامي
بقلم : أ.
د. عبد الحكم عبد اللطيف الصعيدي
أولاً: معنى التوبة:
التوبة
تعني الرجوع إلى الله مع الإقلاع عن الذنب خوفاً من عقاب الله.
والتوبة
النصوح: هي التي يتوب صاحبُها من الذنب ثم لايعود إليه كما لايعود اللبن إلى
الضرع، كما هو رأي «عمر بن الخطاب وأبيّ بن كعب» –
رضي الله عنهما –
ويفرق بين التوبة والإنابة والأوبة بأن الرجوع إذا كان حياء من الله فهو إنابة،
وإذا كان تعظيماً لجلال الله فهو أوبة وصاحبه أواب، وإذا كان خوفاً من الله فهي
التوبة.
ثانياً: حكم التوبة:
أجمع
أهل العلم على وجوب التوبة من كل ذنب، لافرق في ذلك بين الصغائر والكبائر، ولا بين
الظواهر والبواطن، وسواء أكانت تلك الذنوب متعلقةً بحقوق الله أو بحقوق العباد،
وقد تضافرت أدلّة الكتاب والسنة على وجوب التوبة، كما انعقد على ذلك إجماع الأمة
الإسلامية، يقول الله –
تعالى –
: ﴿.. وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ﴾ النور: آية31.
ويقول
أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَةً نَصُوحًا﴾
التحريم: آية8.
ويقول:
﴿.. اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ نوح: آية10.
وعن
الأغرَّ بن يسار المُزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس
توبوا إلى الله استغفروه فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» رواه مسلم.
عن
أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: «يا
ابن آدم إنك ما دعوتني، ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو
بلغت ذنوبك عنانَ السّماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني لاتشرك
بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرةً» رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
ثالثاً: وقت التوبة:
إن
باب التوبة مفتوح على مصراعيه لايغلق أمام العبد مالم يغرغر حتى تطلع الشمس من
مغربها، والأحاديث والنصوص متضافرة ومتوافرة على ذلك نذكر لك منها ما لي:
*
عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبسط يده بالليل
ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من
مغربها» رواه مسلم.
أي
إن الله قد وسع جوده وفضله العصاة لعلهم يُلهمون التوبة في أي وقت من الأوقات،
فقبول التوبة مستمر مادام بابها مفتوحاً حتى تأتي العلامات الكبرى لقيام الساعة،
ومن أعظمها طلوع الشمس من مغربها، فيغلق حينئذ بابها، وفي ذلك يقول الله – تعالى –: ﴿..يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ
رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ
كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا..﴾ الأنعام: آية158.
*
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تاب قبل أن تطلع الشمس
من مغربها تاب الله عليه» رواه مسلم.
*
عن عبد الله بن عمر –
رضي الله عنهما –
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله –
عزّ وجلّ –
يقبل توبة العبد مالم يغرغر» رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
رابعاً: شروط قبول
التوبة:
للتوبة
شروط عامة لابد من توافرها لقبولها، وتتوقف هذه الشروط على من كانت المعصية والذنب
في حقه، وذلك على النحو التالي:
1 –
المعاصي التي تقع بين العبد وربه:
ويشترط
لقبول التوبة من هذه المعاصي أن يقلع صاحبها عن فعلها، وأن يندم عليها، وأن يعزم
عزماً أكيداً على ألا يعود إليها أبدًا.
2 –
المعاصي التي تتعلق بحقوق الآدميين:
وأما
إذا كانت المعصية تتعلق بحقوق الآدميين (ماديةً كالسرقة والغصب ونحوهما، أو
معنويةً كالسب والقذف والغيبة والنميمة وما شابهها) فشرط قبول التوبة منها براءة
الذمة من حق صاحبها، إما بردها عند وجود عينها، أو ببدلها عند تلفها من نحو مثل أو
قيمة، وهذا بالإضافة إلى الشروط السابقة بالنسبة لحق الله، كما يجب عليه أن يطلب
العفو من صاحب الحق إذا كان غير مال، كلما أمكنه ذلك.
خامساً : تشخيص
الداء ووصف تذكرة الدواء:
*
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على دائكم
ودوائكم؟ ألا إن داءكم الذنوب ودواءكم الاستغفار» رواه البيهقي.
*
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتةً سوداء
في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها، وإن زادت زادت حتى يغلف قلبه، فذلك الران
الذي ذكره الله في كتابه ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ﴾ المطففين: آية14، رواه الترمذي وابن ماجة وابن حبان.
*
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تعرض
الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء،
وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود
مُرْبادًا كالكوز مجخِّياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه،
وقلبٌ أبيض فلا تضره فتنة مادامت السموات والأرض»(1).
*
وعن «حذيفة» أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القلوب أربعة: قلب أجرد، فيه
سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس، فذلك قلب
المنافق، عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي، وقلب تمده مادتان: مادة إيمان، ومادة نفاق،
وهو لما غلب عليه منهما»(2).
*
عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القلوب أربعة: قلب أجرد
فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما
القلب الأجرد فقلب المؤمن فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب
المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل
الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها
القيح والدم، فأي المادتين غلب على الآخر غلب عليه»(3).
فيستفاد
من هذه النصوص جميعاً أن داءات البشر تتمثل في
الذنوب التي يقترفونها، وأن أدواءهم تتمثل في استغفارهم وعودتهم إلى الله،
وأن آثار الذنوب إنما تنطبع على صفحات القلوب نقاطاً سوداء، فإذا استغفر العبد
انطبعت نقاط بيضاء فأزالت ما خلفته الذنوب من سواد، وإلا استحكمت تلك الظلمة من
القلب فغلفته بحجبها الكثيفة، ويروق لي في هذا الصدد أن أقدم لك ما قاله الإمام
ابن القيم، ومن كلام قيم، في كتابه القيم «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان»: «فقد
شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض الفتن على القلوب شيئاً فشيئاً كعرض عيدان
الحصير، وهي طاقاتها شيئاً فشيئاً، وقسم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين، قلب
إذا عرضت عليه فتنة أشربها، كما يشرب السفنج الماء فتنكت فيه نكتة سوداء، فلايزال
يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس، وهو معنى قوله «كالكوز مجخياً» أي
مكبوساً منكوساً، فإذا أسود وانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران يصلان به
إلى الهلاك: أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفاً، ولا ينكر
منكراً، وربما استحكم عليه المرض حتى يعتقد المعروف منكرًا والمنكر معروفاً،
والسنة بدعةً والبدعة سنةً، والحق باطلاً والباطل حقاً، والثاني: تحكيمه هواه على
ما جاء به الرسول وانقياده للهوى واتباعه له.
وقلب
أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها
وردها، فازداد نوره وإشراقه وقوته.
والفتن
التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن الغي
والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى توجب فساد القصد
والإرادة، والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد.
وتقسم
القلوب أيضاً إلى قلب أجرد: أي متجرد مما سوى الله ورسوله، فقد تجرد وسلم مما سوى
الحق، وفيه سراج يزهر، وهو مصباح الإيمان، فأشار بتجرده إلى سلامته من شبهات
الباطل، وشهوات الغي، وبحصول السراج فيه إلى إشراقه واستنارته بنور العلم
والإيمان. وأشار بالقلب الأغلف إلى قلب الكافر؛ لأنه داخل في غلافه وغشائه، فلا
يصل إليه نور العلم والإيمان، كما قال تعالى حاكياً عن اليهود: ﴿وَقَالُوْا
قُلُوبنا غُلفٌ﴾ البقرة: آية 88.
وهي
جمع أغلف، وهو الداخل في غلافه، كقلف وأقلف، وهذه الغشاوة هي الأكنة التي ضربها
الله على قلوبهم، عقوبةً لهم على رد الحق والكبر عن قبوله، فهي أكنة على القلوب،
ووقر في الأسماع، وعمي في الأبصار، وهي الحجاب المستور عن العيون في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ
يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا..﴾ الإسراء: الآيتان 45، 46، فإذا
ذكر لهذه القلوب تجريد التوحيد وتجريد المتابعة ولى أصحابها على أدبارهم نفورًا.
وأشار بالقلب المنكوس. وهو المكبوب –
إلى قلب المنافق، كما قال تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ
فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ النساء: آية88، أي نكسهم
وردهم في الباطل الذي كانوا فيه، بسبب كسبهم وأعمالهم الباطلة، وهذا شر القلوب
وأخبثها، فإنه يعتقد الباطل حقاً ويوالي أصحابه، والحق باطلاً ويعادي أهله، فالله
المستعان.
وأشار
بالقلب الذي له مادتان إلى القلب الذي لم يتمكن فيه الإيمان ولم يزهر فيه سراجه،
حيث لم يتجرد للحق المحض الذي بعث الله به رسوله؛ بل فيه مادة منه ومادة من خلافه،
فتارةً يكون للكفر أقرب منه للإيمان، وتارةً يكون للإيمان أقرب منه للكفر، والحكم
للغالب وإليه يرجع».
فالقلب
إذاً هو مصدر الإشعاع بالنسبة للبدن، فإذا غلفته المعاصي بظلمتها، تخبط صاحبه في
دياجير الغي والضلال، وأضحى أضحوكة في يد الشيطان، أما إذا أشرقت شموس الطاعات في
سمائه، واستنار بنور العبادات فإنه يهدي صاحبه للتي هي أقوم، ففي الصحيحين من حديث
النعمان ابن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وإن في الجسد مضغةً إذا
صلحت صلح الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسدُ كلّه، ألا وهي القلب».
الله يفرح بتوبة
العبد المؤمن:
من
الأمور التي تثلج الصدر، وتريح الفؤاد، أن الله يفرح بتوبة عبده المؤمن، مع أنه – تعالى –
غنى كل الغني عن جميع خلقه، فلا تضره معاصي العصاة والمذنبين، ولا تنفعه طاعات
الطائعين، وذلك كله محض فضل منه –
تقدست أسماؤه –
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لله أفرح بتوبة عبده من
أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة» متفق عليه.
وفي
رواية مسلم: «لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته
بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتي شجرةً فاضطجع في ظلها
وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها، ثم قال من
شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح».
سابعاً: التوبة باب
من أبواب رحمة الله بعباده:
ستظل
التوبة النصوح من الذنوب، والرجوع الحق إلى علام الغيوب المدخل الحقيقي إلى رضوان
الله، فهي بداية طريق السالكين، ورأس مال الفائزين، وتجارتهم التي لن تبور، فإذا كانت
المعاصي هي السموم القاتلة التي تهدد جوهر الإيمان فضلاً عن بقائه، وإذا كان تضافر
الشهوات على القلوب هو أهم العوامل التي تؤذن يمغيب شمس الإيمان، فإن التوبة توقظ
الضمائر، فتهرع النفوس إلى واحة الطهر، إلى طاعة الله وروضانه؛ ذلك لأن العبد
المؤمن حينما يسارع بالتوبة فإنما ينتزع نفسه من حمأة الخطايا انتزاعاً، ويتجه بها
إلى واحة الصفاء والنقاء، مصداقاً لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ
اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ
مُبْصِرُونَ﴾ الأعراف: آية201.
فالتوبة
باب واسع من أبواب رحمة الله بعباده، تنكشف في رحابها الحجب عن القلب، وتتجلّى غمة
النفس، فلا يجمل بالإنسان إذا زل زلةً أن يجمد أمامها، أو يتوقف عندها؛ بل عليه أن
يتجاوزها سريعاً، مستأنفاً مسيرته إلى الله، راجياً منه الصفح والمغفرة، فما أجدر
أن يبادر الخطاءون بالإنابة، فإن قطرةً من بحار جود مولانا تملأ الأرض رياً، ونظرة
بعين رحمته تجعل الكافر ولياً، وكما يقولون: رُبَّ زلة أورثت ذُلاً وانكساراً خير
من طاعة أورثت غرورًا واستكبارًا.
فإن
العبد إذا وقف بباب مولاه وقفةً ذليلةً فحقٌ على الله أن يرحم ذله، وأن يجبر كسره،
ويقول له كما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن
عبدًا أذنب ذنباً فقال: ربِّ أذنبت ذنباً فاغفرلي، قال الله – تعالى –
: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم
أذنب ذنباً آخر فذكر مثل الأول مرتين أخريين».
فليس
في هذا الحديث تهوين من شأن الرذيلة، أو شبهة دعوة إليها بقدر ما فيه من إعطاء
دفعة قوية من الريح الرخاء إلى أشرعة سفن الخطائين، كي تتخلص من عثارها، وتستقيم
في سيرها، متجهةً إلى شاطئ النجاة، وهو وأمثاله علاج ناجع، ودواء نافع لتلك
النفوس، ودعوة صريحة إلى الرجوع والإنابة حتى مع عظم الذنوب وكثرة المعاصي، وصدق
الله إذ يقول: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ الزمر: آية 53. فقد روى
الإمام ابن كثير أنها نزلت في رجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رجل
كثير الغَدَرَات والفَجَرات، فهل لي من توبةٰ فسكت رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى تنزلت هذه الآية، ثم قال: ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى، وأشهد
أنك رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد غُفرت لك غدراتك وفجراتك».
فالله
–
سبحانه –
يطلب الخطائين قبل أن يطلبوه، ويمد إليهم يد الصفح قبل أن يسألوه، فانظر معي إلى
أشعة الأمل في كلمات تلك الآية: أسرفوا –
لاتقنطوا –
إن الله يغفر الذنوب جميعاً –
.
إنها
كلمات من نور، ونفحات من عبق العطور، إنها أعلام بيض تَرِف بالأمل، وتخفق بالرجاء
في دنيا الخطائين، فعلينا أن نمزج رجاءنا فيه بخوفنا منه، مزج من يعلم أنه مع كونه
غافر الذنب وقابل التوب فهو شديد العقاب، حتى لا نخدع بالدنيا يوم تبلى السرائر
فإذا هي وهم وسراب.
يقول
الإمام ابن عباس –
رضي الله عنهما –
: من أيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله عزوجل – .
ثامناً: أمل ورجاء:
إنني
–
أخي القاريء –
أحاول أن أبين جيّدًا هذا الموضوع بنصوص أخرى، هي بالنسبة له مسك الختام:
*
عن أبي هريرة t قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء
بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم»(4).
*
عن أبي هريرة t قال:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله –
تعالى –
أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن
ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرّب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن
تقرب إليّ ذراعاً، تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولةً»(5).
*
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجلّ: «من جاء بالحسنة فله عشر
أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرّب منيٍ شبرًا
تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب منيٍ ذراعا تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته
هرولةٍ، ومن لقيني بقراب الأرض خطايا لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرةً» رواه
مسلم.
*
يقول الله –
تعالى –
في صحف إبراهيم عليه السلام: من العزيز
الحميد إلى من أبق من العبيد:
سلام
عليكم، هذه رسالتي إليكم؛ بما اختصصتكم به من نور العلم وذكاء الفهم.
فأول
ذلك أني أخرجتكم من العدل إلى الوجود، واخترعت لكم الجود، وأنشأت لكم الأسماع
فسمعتم، والأبصار فأبصرتم، والألسنة فنطقتم، والقلوب فعلمتم، والعقول ففهمتم،
وأشهدتكم على أنفسكم لي بالوحدانية فشهدتم، وعند الإقبال أدبرتم، وبعد الإقرار
أنكرتم، ونقضتم عهودنا.
فلا
يوحشنكم ذلك منا، فإن عدتم عدنا، وزدنا في الكرم وجدنا، فمن عثر أقلنا، ومن تاب
قبلنا، ومن نسي ذكّرنا، ومن عمل قليلاً شكرنا، نعطي ونمنح، نجود ونسمح، ونعفو
ونصفح، كرمنا مبذول، وسترنا مسبول.
عبدي..
انظر إلى السماء وارتفاعها، والشمس وشعاعها، والأرض وأقطارها، والبحار وأمواجها،
والفصول وأزمانها، والأوقات وإتيانها، وماهو ظاهر وكامن، ومتحرك وساكن، ومستيقظ
وراقد، وراكع وساجد، وما غاب وما حضر، وما خفى وما ظهر، الكل يشهد بجلالي، ويقر
بكمالي، ويعلن عن ذكرى، ولا يغفل عن شكري.
عبدي..
أذكرك وتنساني، وأسترك ولا ترعاني، لو أمرت الأرض لابتلعتك من حينها، أوالبحار
لأغرقتك في معينها؛ ولكن أحميك بقدرتي، وأمدك بقوتي، وأؤجلك إلى أجل أجلته، ووقت
وقته، فوعزتي وجلالي، لابد لك من الورود عليَّ، والوقوف بين يدي، أعدد عليك
أعمالك، وأذكرك أفعالك، حتى إذا أيقنت بالبوار، وقلت –
لا محالة –
إنك من أهل النار، وأليتك غفراني، ومنحتك رضواني، وغفرت لك الأوزار، وقلت لك: لا
تحزن فمن أجلك سميت نفسي الغفار».
* * *
الهوامش:
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم، ج1، ص:17.
المرجع السابق.
المرجع السابق ومسند أحمد 3/17.
أخرجه مسلم واللفظ له (ج4، ص2106)، والترمذي وأحمد.
أخرجه البخاري ج4، ص278 ومسلم (4/2068) وابن ماجه وأحمد.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1433 هـ = مارس 2012م ،
العدد : 4 ، السنة : 36